الفراغ الرئاسي في لبنان- أزمة نظام أم صراع محاور إقليمي؟

المؤلف: د. حياة الحريري10.06.2025
الفراغ الرئاسي في لبنان- أزمة نظام أم صراع محاور إقليمي؟

إن العدوان الإسرائيلي المتواصل على لبنان سلط الأضواء مجدداً على التصدع السياسي والدستوري الذي يرزح تحته البلد منذ أعوام طويلة، وهو وضع متشابك لا ينفك عن أزمة النظام الحاكم وعلاقته العضوية بالصراع المحتدم بين المحاور الإقليمية. ففي أوج الهجمات الإسرائيلية، تشتد الحاجة الماسة إلى تضافر جهود كافة مؤسسات الدولة، والأهم من ذلك، ضرورة تواجد جميع أركانها، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية.

إلا أن سدة الرئاسة في لبنان شاغرة منذ عام 2022، وذلك لعلل جمة متشابكة ومتداخلة، تبدأ بانتشار الفساد المستشري في أوساط النخبة السياسية، ولا تنتهي بالإذعان التام للقرارات الخارجية، وتحديداً لهيمنة صراع المحاور الإقليمية، بين ما يعرف بـ"محور الممانعة" المتحالف مع إيران، والمحور الآخر المتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول العربية.

ومع اندلاع ما يمكن وصفه بحرب الاستنزاف بين المقاومة اللبنانية، وعلى رأسها حزب الله، وقوات الاحتلال الإسرائيلي في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تجدد الحديث السياسي المعتاد حول ضرورة إنهاء الفراغ الرئاسي وانتخاب رئيس جديد للجمهورية في أسرع وقت ممكن.

وقد شهد لبنان عودة ملحوظة للتحركات الدبلوماسية الغربية والعربية، والتي تجسدت بشكل خاص في نشاط اللجنة الخماسية، والتي تضم في عضويتها كلاً من قطر، والمملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، وفرنسا، والولايات المتحدة الأميركية.

وبالتزامن مع بدء مرحلة التصعيد الإسرائيلي الواسع النطاق على لبنان، أو ما يمكن تسميته بالحرب الموسعة، والتي تجلت بصورة أساسية في توسيع رقعة القصف الإسرائيلي ليشمل مختلف المناطق والقرى اللبنانية، واستهداف قادة حزب الله البارزين، وبلغ ذروته باغتيال أمينه العام سماحة السيد حسن نصرالله، عاد النقاش المحتدم حول ضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة؛ وذلك بهدف معالجة التداعيات الخطيرة لهذا العدوان الغاشم على كل المستويات الداخلية والخارجية.

وعقب حادثة اغتيال السيد نصرالله، جدد رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، نجيب ميقاتي، دعوته الملحة إلى انتخاب رئيس للجمهورية في أقرب وقت ممكن، مؤكداً على الحاجة الماسة لإتمام هذا الاستحقاق الرئاسي الدستوري، بالإضافة إلى التطبيق الكامل للقرار الدولي رقم 1701، وذلك بالتنسيق والاتفاق التام مع رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه برّي.

ظاهرياً، بدا هذا الاتفاق أو التناغم بين الرئاستين، بالإضافة إلى الدعوات المتتالية التي أطلقتها بقية الأطراف والأحزاب السياسية اللبنانية، وكأن الطبقة السياسية اللبنانية بنوابها وأحزابها وزعمائها قد استوعبت الآن الخطر الداهم الذي ينطوي عليه استمرار الفراغ الرئاسي، وبالتالي ضرورة تنحية كافة الخلافات والاصطفافات الداخلية والخارجية جانباً، وتبني خطاب أو أداء وطنيّ مسؤول يتجاوز المصالح الضيقة بين المحورين المتنازعين، وإعادة استئناف جلسات مجلس النواب لانتخاب الرئيس المنتظر.

غير أن هذه اللحظة الوطنية المرجوة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما عادت اللجنة الخماسية إلى الواجهة، وعادت معها الشروط المتباينة والشروط المضادة من الفريقين المتناحرين، كلّ حسب تبعيته وولائه للمحور الذي ينتمي إليه.

إذًا، تلقت الأحزاب السياسية اللبنانية دعوة السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولكن كلّ حزب حسب اللحظة التي وجد أنها تخدم أجندته السياسية الخاصة، والتي لا يمكن فصلها مطلقاً عن صراع المحاور الإقليمية، والذي تجسّد في دعوة أمريكية مباشرة لانتخاب رئيس يتناسب مع ما يعتبرونه "مرحلة ما بعد سقوط حزب الله وسحب ملف لبنان من تحت العباءة الإيرانية استنادًا إلى تلك الضربات الموجعة التي تلقاها المحور، لا سيّما اغتيال الحليف الأهم والأقوى لإيران، أي حزب الله".

في المقابل، جاء الرد الإيراني سريعاً وعبر حضور دبلوماسيّ لافت ومكثف على الأراضي اللبنانية، مما أعاد موضوع الرئاسة إلى نقطة البداية، حيث صرّح الموفدون الإيرانيون بوجوب وقف الحرب العدوانية على لبنان وغزة قبل الخوض في أي شأن آخر، في رسالة مباشرة لكل من يعنيهم الأمر بأن طهران ما تزال ممسكة بزمام الأمور في الملف اللبناني، وأن لبنان لا يزال يمثل خط الدفاع الأول عن مصالح طهران في المنطقة.

وعلى المستوى الداخلي المأزوم، استعاد الفريقان المتصارعان أدواتهما السياسية التقليدية التي لا يتقنان سواها، وهي إضفاء طابع أيديولوجي على الصراع السياسي المحتدم على السلطة، وإعطائه عناويناً مثل: الوجود والدور والقضية للتغطية على ارتهانهما المشين للخارج.

وقد حاول الفريق المتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، والذي يطلق على نفسه زوراً صفة "السيادي والحرّ"، استغلال الاهتزاز الكبير الذي أصاب حزب الله، والذي يمثل عصب محور الممانعة في لبنان، فبدأ الإعلاميون والسياسيون الذين يدورون في فلكه بالدعوة إلى ما اعتبروه "احتضان بيئة المقاومة بعد الخسائر الفادحة التي منيت بها وإعادتها إلى كنف الدولة بعد الدمار الشامل الذي أحدثه حزب الله بالتدخل السافر في الحرب ليس دفاعًا عن لبنان أو مساندةً لغزة، لكن لتحقيق المصالح الإيرانية التوسعية"، والدعوة كذلك إلى انتخاب رئيس سياديّ لا يدين بالولاء لإيران ويعمل بكل جد على سحب سلاح المليشيات وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة من 1701 إلى 1680 و1559″، وصولًا إلى تنظيم مؤتمر برئاسة حزب القوات اللبنانية لهذه الغاية المشبوهة في محاولة بائسة لإعادة إحياء الاصطفافات القديمة العقيمة ولإثبات حضور سياسيّ واهٍ، يبدو أنّها لم تصب أهدافها الدنيئة بعد، لالتقاط اللحظة المفصلية المستجدة.

في المقابل، عاد الإعلاميون والسياسيون المحسوبون على ما يعرف بفريق الممانعة إلى استعادة أنفاسهم بعد فترة وجيزة من التخبط والضعف، لا سيّما بعد تصاعد وتيرة العمليات البطولية التي ينفذها مجاهدو حزب الله ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، ونجاحه الباهر حتى كتابة هذه السطور في منع قوات الاحتلال الإسرائيلي من التقدّم في المعركة البرية الدائرة رحاها على أرض الجنوب.

لذلك، وبعد إبداء نوع من المرونة الظاهرية في السير بانتخابات الرئاسة الأولى، عاد أركان هذا المحور في الداخل ليعلنوا بصلف أنهم لا يزالون في كامل قوتهم وأنهم يرفضون رفضاً قاطعاً انتخاب رئيس قبل وقف الحرب الشعواء على لبنان، وهم يشترطون تنصيب رئيس "يحمي ظهر المقاومة"، وبالتالي فهم لن يسمحوا إطلاقاً بانتخاب رئيس يأتي على ظهر الدبابات الإسرائيلية الغازية"، في استحضار فج لوقائع انتخاب بشير الجميّل الدموية في عام 1982 خلال الاجتياح الإسرائيلي الغاشم للبنان، وبيروت، والجنوب على وجه الخصوص.

وفي هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى ذلك المؤتمر الصحفي الذي عقده المسؤول الإعلامي في حزب الله محمد عفيف من قلب الدمار الهائل في الضاحية الجنوبية لبيروت، والذي وجّه خلاله رسائل واضحة لا لبس فيها إلى الفريق الآخر مفادها عدم واقعية الاستثمار السياسي المعقود ضد الحزب الذي "ما يزال قويًّا وحاضرًا بقوة في الحياة السياسية اللبنانية".

عمليًّا، هذا المشهد المتكرر والمستهلك في الخطاب والانقسام السياسيين يؤشّر بوضوح إلى عدة نقاط جوهرية يجب التوقف عندها ملياً، وأهمها:

  • أولًا، فشلَ الطرفان المتنازعان، وللمرة الثالثة على التوالي بعد الانسحاب السوري من لبنان في عام 2005، في تفعيل الاستحقاق الرئاسي، أي في إظهار ولو الحد الأدنى من التكاتف والوحدة الوطنية، بأن الطبقة السياسية في لبنان قادرة على حكم نفسها بنفسها، أو حكم البلد من خلال الالتزام بالدستور والقانون والمصلحة العليا للوطن بعيدًا عن براثن الارتهان لصراع قوى المحاور المتناحرة؛ طمعًا في كسب السلطة أو المحافظة عليها، ودائمًا تحت يافطات زائفة مثل الوجود والدور والكرامة الوطنية، وهي شعارات جوفاء يتقن السياسيون المخادعون توظيفها وإسقاطها على اللبنانيين البسطاء؛ للمحافظة على شرعيتهم السياسية الواهية.

وفي هذا الإطار المؤسف، فشلت الطبقة السياسية فشلاً ذريعاً في مواكبة الالتفاف الشعبي الهائل الذي أظهرته هذه الحرب الضروس، سواء أكان ذلك في احتضان النازحين الأبرياء أم في المبادرات الفردية النبيلة التي يقوم بها أفراد الشعب اللبناني في مساعدة بعضهم البعض اقتصاديًا واجتماعيًا في ظل عجز فاضح ومخز للدولة عن القيام بهذا الدور المنوط بها أصلاً، وفي رفض الانجرار أقلّه بالحد الأدنى في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد إلى لعبة الانقسامات والاصطفافات السياسية والطائفية المقيتة.

غير أنه في حال لم يتدارك السياسيون المتشبثون بالسلطة في لبنان هذا الوعي اللبناني المتنامي الذي يحتاج إلى مقوّمات الدولة للصمود والاستمرار، خاصة إذا ما استمرّت الحرب العدوانية لفترة أطول، وعمدوا بجد إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية حسب الأصول الدستورية المرعية الإجراء لإعادة انتظام عمل المؤسسات الرسمية بالحد الأدنى وبعيدًا عن تداعيات صراع المحاور الإقليمية المتداخلة في هذه الحرب العبثية الدائرة، فإنهم بذلك سيكونون السبب الرئيسي والمباشر لإمكانية الانزلاق إلى ذلك الفخّ الخطير المتمثل بالاقتتال الداخلي عبر تفاقم وتيرة الإشكالات المتنقلة التي بدأت تطل برأسها؛ بسبب الغياب التام للدولة. فلا يغيب عن بال أحد أن لبنان مهدّد بخطر محدق في عودة الاقتتال الداخلي واستحضار مرحلة الانقسام المرير الذي كان سائدًا بُعيد عام 2005 وفي عام 2008، والذي تخلّلته جولات عنيفة من المواجهات العسكرية الداخلية لم تنتهِ إلا بتسوية خارجية، كما جرت العادة السيئة في لبنان.

  • ثانيًا، تعيدنا مشكلة انتخابات رئاسة الجمهورية المتعثرة في لبنان إلى صميم علّة النظام الطائفي البالي وطبيعة العمل السياسي في لبنان القائم في جوهره على الشخصانية المفرطة، ومبدأ الزعامة العائلية والطائفية السائد، والمحاصصة الاقتصادية والسياسية منذ الاستقلال الشكلي في عام 1943، باستثناء الحقبة الذهبية للرئيس الشهيد فؤاد شهاب، حيث جرت للمرة الأولى، وتكاد تكون الأخيرة، محاولة جادة وحقيقية لبناء مؤسسات الدولة الصلبة وتكريس علاقة سوية ومتوازنة بين المواطن والدولة عبر المؤسسات الرسمية، وليس عبر الخدمات والمنفعة باسم الحماية والوجود، أو في إطار ما يعرف بـ"الزبائنية السياسية"، والتي تشكّل صلب العمل السياسي التقليدي في لبنان حتى يومنا هذا للأسف الشديد.

وانطلاقاً من هذه الخلفية، يصبح من السهل على أي مراقب محايد فهم عدم امتلاك أي من الطرفين المتنازعين، كلّ عبر مرشحه المدعوم، أي مشروع وطني داخلي واضح المعالم وواقعي وقابل للتطبيق على أرض الواقع لمعالجة المشكلات المتراكمة التي يعاني منها لبنان، والتي تتلخّص في نهاية المطاف بالعنوان العريض الأساسي، ألا وهو بناء الدولة القوية والعادلة والقادرة استنادًا إلى الدستور اللبناني.

بل على العكس تماماً، يعتبر كل طرف من هؤلاء المتنازعين أن السمات الشخصية لمرشحه المدعوم، مثل السيادة والاستقلال والكرامة والوفاء والثبات والانفتاح هي الأساس الذي يجب أن تنبني عليه عملية الحكم الرشيد، فتغدو المشاريع والبرامج التفصيلية ثانوية وغير ذات أهمية، وهذا يعيدنا إلى حقيقة دامغة وواضحة وهي عدم قدرة الطبقة السياسية المهيمنة الحالية (بموالاتها ومعارضيها المزعومين) على حوكمة الدولة وقيادتها نحو بر الأمان؛ لأن الشخصانية والمصالح الفئوية الضيقة هي التي تحدد إطار العمل السياسي المتبع في لبنان.

لذلك، يجد السياسيون أنفسهم في حاجة ماسة ودائمة إلى الاصطفافات مع المحاور الإقليمية والقوى الدولية المتنفذة؛ وذلك للحفاظ على سلطتهم ومكاسبهم الهائلة باسم الطائفة والوجود والوطنية والهوية، وهي آفة مزمنة يعاني منها لبنان منذ نشأة الدولة، حيث شكّلت الرافد الأساسي لتغذية الحروب الأهلية الصغيرة والكبيرة منذ عام 1860 وعام 1958 وعام 1975 وصولًا إلى تسوية اتفاق الطائف الهشّة في عام 1989.

وفي هذا السياق الحرج، لا بدّ من الاعتراف الصريح بفشل اتفاق الطائف الذريع، والذي كان من المفترض به أن يكون نقطة التحوّل المفصليّة في تاريخ لبنان الحديث، في تحقيق ذلك العبور المنشود والجاد إلى الدولة الحقيقية الجامعة، وذلك لعوامل عديدة في مقدمتها عدم تطبيقه بشكل كامل وصحيح بالدرجة الأولى. هذا الأمر يفتح النقاش على مصراعيه حول نقطة جوهرية وأساسية وهي غياب المصالحة الوطنية الشاملة والمصارحة الفعلية لمرحلة الحرب الأهلية اللبنانية المأساوية، وكل الأحداث المؤسفة التي سبقتها وتلتها، فكانت تسوية الطائف في نهاية المطاف عبارة عن اعتماد لسياسة المحاصصة البغيضة في السلطة بين المجموعات التي كانت بمعظمها شريكة متورطة في الحرب الأهلية، والسبب الرئيسي في انهيار الدولة.

وللمفارقة العجيبة، تتوحّد هذه المجموعات والأحزاب المتنافرة في قدرتها الفائقة على التنصّل من المساءلة والمحاسبة وتحمّل المسؤولية عن أفعالها المشينة؛ وذلك للمحافظة على مكاسبها الخاصة واستمرار سيطرتها المطلقة على مفاصل الدولة، وذلك باستخدام الشعارات الديماغوجية نفسها في الانتصار الزائف في معركة الدفاع عن الوجود (أي الحرب الأهلية).

فمنذ حصول لبنان على الاستقلال الناقص عن الانتداب الفرنسي في عام 1943، اتخذ الصراع المرير على السلطة بين الأحزاب والمجموعات السياسية المتناحرة عناوين طائفية ووجودية حادة؛ وذلك لاستقطاب الجماهير اللبنانية الغاضبة، وللحفاظ على شرعيتها الهزيلة آنذاك، وبالتالي حماية مصالحها وامتيازاتها المشبوهة.

فعلى سبيل المثال، نادى المسلمون بالمظلومية التاريخية في التمثيل السياسي في الدولة، إذ كان رئيس الجمهورية، بحكم الصلاحيات المطلقة التي تمتّع بها، هو من يعيّن أو يعزل رأس السلطة الثالثة حتى اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، والتي في حقيقة الأمر، لا يمكن فصلها أيضاً عن التبدّلات الإقليمية والسياسية المتسارعة في المنطقة، والصراع المحموم على حكم المنطقة بين القوى الدولية والإقليمية عبر مشروعين متناقضين آنذاك، وهما هوية لبنان العربية الأصيلة وارتباطه الوثيق بقضايا العالم العربي العادلة من خلال دعم التيار الناصري القومي، ثمّ الوجود الفلسطيني المتزايد من جهة، وبين حلف بغداد والتحالف الغربي والحياد اللبناني الظاهري من جهة أخرى.

وبعد توقيع اتفاق الطائف ودخول لبنان في مرحلة التسوية الإقليمية والدولية بغطاء عربي وأميركي وفرنسيّ، استخدم المسيحيون خطاب المظلومية ذاته، حيث باتت انتخابات رئاسة الجمهورية محكومة بقواعد مجلس الوزراء وبالمحاصصة الطائفية المقيتة التي تمّ مأسستها وتكريسها رسمياً، فتصاعدت الأصوات والاعتراضات بشكل مستمرّ للتعبير عن شعور المسيحيين بالخطر الداهم على الوجود والهوية؛ وذلك لعدم عدالة التمثيل السياسي الفعلي في الدولة ومؤسساتها، وبالتالي إعطاء الصراع السياسي على السلطة أيضاً عنوانه الطائفي المألوف.

ومنذ انسحاب القوات السورية من لبنان في عام 2005، سنحت للبنان فرصة تاريخية نادرة للحكم بشكل مستقلّ ودون تدخل خارجي كدولة ذات سيادة في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والقضائية بالحدّ الأدنى.

وفي تلك المرحلة المصيرية، دخلت المنطقة بأسرها في تبدّلات جذرية في التحالفات الإقليمية والدولية وفي تبدّل ميزان القوى بشكل دراماتيكي، فباتت المنطقة برمتها أمام محورين متناقضين تماماً: الأول هو ما يعرف بمحور الممانعة والمقاومة بقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والثاني يعرف بمحور التطبيع والسلام مع الكيان الصهيوني ومشروع الشرق الأوسط الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وبينهما دخلت الدول العربية الشقيقة في حالة من الانقسام السياسي والطائفي والمذهبي الحاد، وغياب الدور الفاعل والمؤثر بين المشروعين المتنافسين. بيدَ أن ذلك لم يمنع معظم هذه الدول من مضاعفة الجهود لتحقيق الاستقرار السياسي الداخلي، ووضع الخطط والمشاريع التنموية الطموحة لإعادة التموضع وحماية أمنها القومي كلّ حسب مصلحته.

أما في لبنان المنكوب، فتثبت الطبقة السياسية الحاكمة عند كل استحقاق وطني أنها ما زالت عاجزة تماماً عن بناء مؤسسات فاعلة في الدولة دون الارتهان أو الارتباط بالخارج، في مقابل المحاصصة وتقاسم السلطة، وانتخاب رئاسة الجمهورية المتعثر هو النموذج الأمثل الذي يعبّر بوضوح عن هذا الفشل الذريع والمستمر، إذ بات الفراغ الرئاسي المزمن أشبه ما يكون بالعرف السائد في الحياة السياسية اللبنانية؛ بسبب ارتهان الساسة المستمرّ للتسويات الإقليمية المعقدة بين المحورين المتصارعين، وبالتالي غلبة فريق على آخر في اختيار رئيس الجمهورية في عملية انتخابية فلكلورية مكرورة.

واليوم، ولأن نتائج التسوية المرتقبة لم تتضح معالمها بعد، فما تزال انتخابات الرئاسة الأولى في لبنان معلّقة إلى أجل غير مسمى، وما يزال كل فريق متشبث بآرائه ويراهن على محوره الإقليمي لفرض مرشّحه بالقوة من خلال اتفاق دوليّ إقليميّ باسم التوافق الوطني والحوار البنّاء.

ويعتقد البعض في لبنان بوجوب عدم استغلال الحرب العدوانية الدائرة حاليًا لتمرير صفقة مشبوهة لانتخاب رئيس للجمهورية على حساب وجوده وهويته الجامعة، في حين يرى آخرون أن الفرصة تبدو مواتية لتمرير أجندتهم السياسية الضيقة التي تخدم مصالحهم الفئوية واستعادة أمجاد أيامهم الغابرة التي كانت سائدة ذات يوم.

ووسط كل هذه التجاذبات، فإن أخطر ما يمرّ به لبنان هو توظيف العدوان الإسرائيلي المستمر، والذي يشكل خطراً داهماً على جميع اللبنانيين وليس فقط على طرف دون آخر، في لعبة المحاصصة على منصب الرئاسة من كلا الفريقين، فتتحوّل الحرب بذلك إلى عنوان فئويّ ضيق في سياق صراع القوى المحموم على السلطة، ما يساهم بشكل فعال في انهيار مؤسسات الدولة الهشة أكثر فأكثر، وبالتالي زيادة ذلك الانكشاف الأمني المزمن الذي يعاني منه لبنان منذ عقود طويلة، والذي يخضع بدوره لصراع المحاور المتناحرة على اقتسام المنطقة.

فلكلّ طرف سياسي في لبنان رهاناته الإقليمية الخاصة في الصراع المحتدم على السلطة، في حين يبحث اللبنانيون المضطهدون عن سلطة دولتهم القوية المنشودة؛ وذلك لمعالجة الانهيار المدمر القائم منذ سنوات طوال في استجداء مستمرّ، ويكاد يكون فريدًا من نوعه في الدول العربية، لكي تتسلّم الدولة أخيرًا عن كاهلهم المثقل زمام تحقيق الحدّ الأدنى الضروري من الأمن المجتمعي الذي يحاولون بمبادراتهم الفردية النبيلة الحفاظ عليه.

فهل سيتمّ انتخاب الرئيس في لبنان قبل فوات الأوان وانهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة والعودة إلى ذلك الزمن المظلم والخطير المتمثل بالاقتتال الداخلي المقيت باسم الطائفة والوجود؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة